فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والنخل} عطف على {جنات} [ق: 9] وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجمع، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل {باسقات} أي طوالًا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل، والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللواقح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل، ونصبه على أنه حال مقدرة.
وروى قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {باصقات} بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صادًا إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أو قاف {باسقات لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر، والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في {باسقات} على التداخل، وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور و{طَلْعٌ} مرتفع به على الفاعلية، وقوله تعالى: {رّزْقًا لّلْعِبَادِ} أي ليرزقهم علة لقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا} [ق: 9] وفي تعليله بذلك بعد تعليل {أَنبَتْنَا} [ق: 7] الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق، وجوز أن يكون {رِزْقًا} مصدرًا من معنى {أَنبَتْنَا} لأن الإنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوسًا، وأن يكون حالًا بمعنى مرزوقًا {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي بذلك الماء {بَلْدَةً مَّيْتًا} أرضًا جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت وأنبتت وتذكير {مَيْتًا} لأن البلدة بمعنى البلد والمكان.
وقرأ أبو جعفر وخالد {مَيْتًا} بالتثقيل {كذلك الخروج} جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الاحياء، وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس، وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الابتداء و{الخروج} خبر، ونقل عن الزمخشري أنه قال: {كذلك} الخبر وهو الظاهر، ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال: ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة، والكاف واقع موقع مثل في قولك: مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)}.
تفريع على قوله: {بل عجبوا أن جاءهم منذر} [ق: 2] إلى قوله: {مريج} [ق: 5] لأن أهمّ ما ذكر من تكذيبهم أنهم كذبوا بالبعث، وخلق السماوات والنجوم والأرض دالّ على أن إعادة الإنسان بعد العدم في حيّز الإمكان فتلك العوالم وجدت عن عدم وهذا أدلّ عليه قوله تعالى في سورة يس (81) {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم}.
والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريًا.
والنظرُ نظرَ الفكر على نحو قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} [يونس: 101].
ومحل الإنكار هو الحال التي دل عليها {كيفَ بنيناها}، أي ألم يتدبروا في شواهد الخليقة فتكون الآية في معنى أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريًا، والنظر المشاهدة، ومحل التقرير هو فعل {ينظروا}، أو يكون {كيف} مراد به الحال المشاهدة.
هذا وأن التقرير على نفي الشيء المراد الإقرار بإثباته طريقة قرآنية ذكرناها غير مرة، وبينا أن الغرض منه إفساح المجال للمقرَّر إن كان يروم إنكار ما قُرر عليه، ثقة من المقرِّر بكسر الراء بأن المقرَّر بالفتح لا يُقدم على الجحود بما قرر عليه لظهوره، وتقدم عند قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} [الأعراف: 148]، وقوله: {ألست بربكم كلاهما} في سورة الأعراف (172).
وهذا الوجه أشدّ في النعي عليهم لاقتضائه أن دلالة المخلوقات المذكورة على إمكان البعث يكفي فيها مجرد النظر بالعين.
و{فوقهم} حال من السماء.
والتقييد بالحال تنديد عليهم لإهمالهم التأمل مع المكنة منه إذ السماء قريبة فوقهم لا يكلفهم النظر فيها إلا رفعَ رؤوسهم.
و {كيف} اسم جامد مبْنيّ معناه: حالة، وأكثر ما يرد في الكلام للسؤال عن الحالة فيكون خبرًا قبل ما لا يستغنِي عنه مثل: كيف أنت؟ وحالًا قبل ما يستغنى عنه نحو: كيف جاء؟ ومفعولًا مطلقًا نحو {كيف فعل ربك} [الفجر: 6]، ومفعولًا به نحو قوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} [الإسراء: 21].
وهي هنا بدل من {فوقَهم} فتكون حالًا في المعنى.
والتقدير: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم هيئة بنينا إياها، وتكون جملة {بنيناها} مبينة ل {كيف}.
وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع.
والمراد بـ {السماء} هنا ما تراه العين من كرة الهواء التي تبدو كالقبة وتسمى الجوّ.
والتزيين جعل الشيء زينا، أي حسنًا أي تحسين منظرها للرائي بما يبدو فيها من الشمس نهارًا والقمر والنجوم ليلًا.
واقتصر على آية تزيين السماء دون تفصيل ما في الكواكب المزَّينة بها من الآيات لأن التزيين يشترك في إدراكه جميع الذين يشاهدونه وللجمع بين الاستدلال والامتنان بنعمة التمكين من مشاهدة المرائي الحسنة كما قال تعالى.
{ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6] في شأن خَلق الأنعام في سورة النحل.
ثم يتفاوت الناس في إدراك ما في خلق الكواكب والشمس والقمر ونظامها من دلائل على مقدار تفاوت علومهم وعقولهم.
والآية صالحة لإفهام جميع الطبقات.
وجملة {وما لها من فروج} عطف على جملتي {كيف بنيْنَاها وزيّناها} فهي حال ثالثة في المعنى.
والفروج: جمع فرج، وهو الخرق، أي يشاهدونها كأنها كُرة متصلة الأجزاء ليس بين أجزائها تفاوت يبدو كالخَرْق ولا تباعد يفصل بعضها عن بعض فيكون خرقًا في قبتها.
وهذا من عجيب الصنع إذ يكون جسم عظيم كجسم كرة الهواء الجوي مصنوعًا كالمفروغ في قالب.
وهذا مشاهد لجميع طبقات الناس على تفاوت مداركهم ثم هم يتفاوتون في إدراك ما في هذا الصنع من عجائب التئام كرة الجوّ المحيط بالأرض.
ولو كان في أديم ما يسمى بالسماء تخالف من أجزائه لظهرت فيه فروج وانخفاض وارتفاع.
ونظير هذه الآية قوله في سورة المُلك {الذي خلق سبع سماوات طباقا إلى قوله هل ترى من فطور} [الملك: 3].
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)}.
عطف على جملة {أفلم ينظروا} [ق: 6] عطف الخبر على الاستفهام الإنكاري وهو في معنى الإخبار.
والتقدير: ومددنا الأرض.
ولما كانت أحوال الأرض نصب أعين الناس وهي أقرب إليهم من أحوال السماء لأنها تلوح للأنظار دون تكلف لم يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاريّ تنزيلًا لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيرًا لهم.
وانتصب {الأرض} بـ {مددناها} على طريقة الاشتغال.
والمدّ: البسط، أي بسطنا الأرض فلم تكن مجموعَ نُتُوءات إذ لو كانت كذلك لكان المشي عليها مُرهقًا.
والمراد: بسط سَطح الأرض وليس المراد وصف حجم الأرض لأن ذلك لا تدركه المشاهدة ولم ينظر فيه المخاطبون نظر التأمل فيستدل عليهم بما لا يعلمونه فلا يعتبر في سياق الاستدلال على القدرة على خلق الأمور العظيمة، ولا في سياق الامتنان بما في ذلك الدليل من نعمة فلا علاقة لهذه الآية بقضية كروية الأرض.
والإبقاء: تمثيل لتكوين أجسام بارزةٍ على الأرض متباعد بَعْضها عن بعض لأنّ حقيقة الإلقاء: رمي شيء من اليد إلى الأرض، وهذا استدلال بخلقة الجبال كقوله: {وإلى الجبال كيف نُصِبَت} [الغاشية: 19] و{فيها} ظرف مستقر وصف ل {رواسي} قدم على موصوفه فصار حالًا، ويجوز أن يكون ظرفًا لغوًا متعلّقًا بـ {ألقينا}.
ورواسي: جمع راسسٍ على غير قياس مثل: فوارس وعواذل.
والرسُوُّ: الثبات والقرار.
وفائدة هذا الوصف زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعًا كما توضع الخيمة لأنها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها.
وقد قال في سورة الأنبياء (31) {وجعلنا في الأرض رواسيَ أن تميد بهم} أي دَفْعَ أن تميد هي، أي الجبال بكم، أي ملصقة بكم في مَيْدها.
وهنالك وجه آخر مضى في سورة الأنبياء.
والزوج: النوع من الحيوان والثمار والنبات، وتقدم في قوله تعالى: {فأخرجنا به أزواجًا من نبات شَتَّى} في سورة طه (53).
والمعنى: وأنبتنا في الأرض أصناف النبات وأنواعه.
وقوله: {من كل زوج} يظهر أن حرف {مِن} فيه مزيد للتوكيد.
وزيادة {مِن} في غير النفي نادرة، أي أقل من زيادتها في النفي، ولكن زيادتها في الإثبات واردة في الكلام الفصيح، فأجاز القياس عليه نحاة الكوفة والأخفشُ وأبو علي الفارسي وابن جنيّ، ومنه قوله تعالى: {وينزّل من السماء من جبالٍ فيها من بردَ} [النور: 43] إن المعنى: ينزل من السماء جبالًا فيها بَرَد، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {ومن النخل من طلعها} في سورة الأنعام (99).
فالمقصود من التوكيد بحرف من تنزيلهم منزلة من ينكر أن الله أنبت ما على الأرض من أنواع حين ادعوا استحاله إخراج الناس من الأرض، ولذلك جيء بالتوكيد في هذه الآية لأن الكلام فيها على المشركين ولم يؤت بالتوكيد في آية سورة طه.
وليست {من} هنا للتبعيض إذِ ليس المعنى عليه.
فكلمة {كل} مستعملة في معنى الكثرة كما تقدم في قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} في سورة الأنعام (25)، وقوله فيها {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} [الأنعام: 70]، وهذا كقوله تعالى: {فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى} في سورة طه (53).
وفائدة التكثير هنا التعريض بهم لقلة تدبيرهم إذ عمُوا عن دلائل كثيرة واضحة بين أيديهم.
والبهيج يجوز أن يكون صفة مشبّهة، يقال: بَهُج بضم الهاء، إذا حَسُن في أعين الناظرين، فالبهيج بمعنى الفاعل كما دل عليه قوله تعالى: {فأنبتنا به حدائق ذاتَ بهجة} [النمل: 60].
ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول، أي منبهَج به على الحذف والإيصال، أي يُسرّ به الناظر، يقال: بهَجَه من باب منَع، إذا سرّه، ومنه الابتهاج المسرة.
وهذا الوصف يفيد ذكره تقوية الاستدلال على دقة صنع الله تعالى.
وإدماج الامتنان عليهم بذلك ليشكروا النعمة ولا يكفروها بعبادة غيره كقوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دِفْءٌ ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تُرِيحون وحين تَسْرحُون} [النحل: 5، 6].
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}.
مفعول لأجله للأفعال السابقة من قوله: {بنيناها وزيناها} [ق: 6] وقوله: {مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها} [ق: 7] الخ، على أنه علة لها على نحو من طريقة التنازع، أي ليكون ما ذكر من الأفعال ومعمولاتها تبصرة وذكرى، أي جعلناه لغرضضِ أن نُبصِّر به ونُذكّر كل عبد منيب.
وحذف متعلق {تبصرة وذكرى} ليَعُم كلَّ ما يصلح أن يتبصر في شأنه بدلائل خلق الأرض وما عليها، وأهم ذلك فيهم هو التوحيد والبعث كما هو السياق تصريحًا وتلويحًا.
وإنما كانت التبصرة والذكرى علة للأفعال المذكورة لأن التبصرة والذكرى من جملة الحِكم التي أوجد الله تلك المخلوقات لأجلها.
وليس ذلك بمقتض انحصار حكمة خلقها في التبصرة والذكرى، لأن أفعال الله تعالى لها حِكَم كثيرة عَلِمنا.
بعضها وخفي علينا بعض.
والتبصرة: مصدر بصّره.
وأصل مصدره التَبصير، فحذفوا الياء التحتية من أثناء الكلمة وعوضوا عنها التاء الفوقية في أول الكلمة كما قالوا: جرّب تجربة وفَسّر تفسرة، وذلك يقلّ في المضاعف ويكثر في المهموز نحو جَزّأ تجزئة، ووطّأ توطئة.
ويتعين في المعتل نحو: زَكّى تزكية، وغطاه تغطية.
والتّبصير: جعل المرء مبصرًا وهو هنا مجاز في إدراك النفس إدراكًا ظاهرًا للأمر الذي كان خفيًا عنها فكأنها لم تبصره ثم أبصرته.
والذكرى اسم مصدر ذَكَّر، إذا جعله يَذكر ما نسيه.
وأطلقت هنا على مراجعة النفس ما علمته ثم غفلت عنه.
و{عبد} بمعنى عبد الله، أي مخلوق، ولا يطلق إلاّ على الإنسان.
وجمعه: عباد دون عبيد.
والمنيب: الراجع، والمراد هنا الراجع إلى الحق بطاعة الله فإذا انحرف أو شغله شاغل ابتدر الرجوع إلى ما كان فيه من الاستقامة والامتثال فلا يفارقه حال الطاعة وإذا فارقه قليلًا آب إليه وأناب.
وإطلاق المنيب على التائب والإنابة على التوبة من تفاريع هذا المعنى، وتقدم عند قوله تعالى: {وخرّ راكعًا وأناب} في سورة ص (24).
وخُص العبد المنيب بالتبصرة والذكرى وإن كان فيما ذكر من أحوال الأرض إفادة التبصرة والذكرى لكل أحد لأن العبد المنيب هو الذي ينتفع بذلك فكأنه هو المقصود من حكمة تلك الأفعال.
وهذا تشريف للمؤمنين وتعريض بإهمال الكافرين التبصر والتذكر.
ويحمل (كل) على حقيقة معناه من الإحاطة والشموال.
فالمعنى: أن تلك الأفعال قصد منها التبصرة والذكرى لجميع العباد المتبعين للحق إذ لا يخلون من تبصرّ وتذكر بتلك الأفعال على تفاوت بينهم في ذلك.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)}.